لقد جاءت شريعة الله في هذه الدنيا لإخراج الناس من داعية أهوائهم حتى يكونوا لله عبادًا، وهذه هي حقيقة العبودية لله، أن نستسلم له في شرعه وقدره، وأن نتحقق من مراد الله لنأخذ به لا لنتحيَّل عليه أو نتهرب منه، إذ مقصد وجودنا هو تحقيق هذه العبودية لله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وعبادة الله تعالى تتمثل في توحيده وطاعته وإمتثال حكمه في أمره ونهيه، وهل الطاعة إلا في الحلال والحرام؟
الحاكم بالحلال والحرام هو الله تعالى، ونعرف حكم الله من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بفهم الصحابة رضي الله عنهم لا بالهوى والتشفي، وإن الله تعالى إصطفى من هذه الأمة من حمل الشريعة خالصة نقية كما جاء بها المصطفى المعصوم صلى الله عليه وسلم، وجعل إتباعهم سنة وهدى وترسُّم آثارهم سلامة ورشدًا، وأول أولئك وأولاهم هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الذين شهدوا التنزيل، وعلموا التأويل، وهم أعلم بمراد الله ومراد رسوله، يليهم علماء راسخون وأعلام بالسنة قائمون، أذابوا عمر الشباب وشطرًا من سن الكهولة في حِلَق العلم والتعلم، وبهؤلاء حُفِظَت الشريعة وإستقامت الملة، وإجتازوا بها قرونًا من الكيد والعداء كما يجتاز المركب لجج البحر وعواصفه حتى وصلت إلينا الشريعة بعد خمسة عشر قرنا بيضاء نقية.
وفي هذه السنوات المتأخرة ظهرت بادرة تنبىء بالشر، وتفتح باب السوء بكثرة المتسولين على حمى الشريعة بالخوض والتخوض في دين الله بلا ورع وازع ولا خوف من الله رادع، تطير بذلك وسائل إعلام وشبكات إتصال تروِّج الشاذ من الأقوال، وتفتي بالرخص حتى أحدثت عند الناس الإضطراب، وأودت بهم في مسالك الإنحراف، ولو كان كل قول معتبرًا، ما إستقام للناس دين ولا عقيدة، فإن لإبليس قولا ولفرعون مقالًا، ولكل إنسان رأي وفهم إذا لم يضبط بالشرع، فلا حد لضلاله، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الناس لا يفصل بينهم إلَّا كتاب منزل أو وحي من السماء، ولو رُدُّوا لأهوائهم فلكل واحد عقل، وكم من معجب برأيه لا يدري أنه إمام في ضلالة، عليه وزره ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وقد قال الله تعالى في فرعون وملئه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41].
وفي خضم هذا التخوُّض وكثرة من يبدي في الشريعة حكمًا وفي الدين رأيًا، فإنا نقول كما قال الأولون: إن هذا العلم دين فإنظروا عمن تأخذون دينكم.
وإذا وقفت غدًا أمام الله، فلن تُعذر بإتباعك لمن تبرأ الذمة بإتباعه ولا يوثق بعلمه ولا دينه ولا فقهه وورعه، لم تأخذ عنه إلَّا ما وافق هواك، واطرحت قول العالم الرباني الذي يخاف الله ويخشاه، ويعلم كيف يتقيه ويعبده وكيف يصل إلى مرضاته وجنته.
إن الدين لله، منه نزل وإلى جلاله يعود، والله الذي له الخلق والأمر يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد، والحق في المسائل المختلف فيها واحد، والحكم عند الله ثابت مهما إختلفت أقوال المفتين، وليست تبرأ الذمة بمجرد أن تجعل بينك وبين النار مفتيًا، ولكن الواجب على المكلف أن يتحرى وأن يعرف مَنْ يسأل ليخرج من التبعة ويصيب حكم الله عز وجل، ويحقق مراده سبحانه.
والبلية كل البلية في القصد إلى الأخذ بأخف الأقوال في مسائل الخلاف وسؤال من ليس أهلًا للفتيا، والله يقول: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فبسؤال غيرهم لا تبرأ الذمة، ولا يخرج المكلف من التبعة.
إن حدود الله لا تستباح بزلة عالم ولا فتوى متعالم، ومن تتبع الرخص، فسق بإجماع العلماء وتحلل من ربقة التكليف، ومن أخذ برخصة كل عالم، إجتمع فيه الشر كله، والبر ما سكنت إليه النفس وإطمئن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك.
الكاتب: صالح بن حميد.
المصدر: شبكة مسلمات.